النمط القيادي للإمام المهدي في تحرير الخرطوم - أ.رحاب جلال الدين خالد
مؤتمر الدراسات المهدوية العلمي الدولي الثاني
محور الإمام المهدي
محور الإمام المهدي
25 يناير 2017 م
النمط القيادي للإمام المهدي في تحرير الخرطوم
ورقة من إعداد : أ.رحاب جلال الدين خالد
يعد
الإمام المهدي نموذجاً فريداً للزعيم الروحي والمفكر الديني والمصلح الاجتماعي
والقائد الجماهيري الذي يمكن أن تلتف حوله مختلف فئات المجتمع ومستوياته من طوائف
وجماعات قبلية لا يمكن أن يجمعها اتجاه فكري واحد، أو تربط بينها أيدلوجية
مشتركة. إلا أن قيادة الإمام المهدي قد استطاعت
وخلال سنوات قليلة أن تجمع ذلك الشتات في أمة واحدة. ويمكن اعتبار الإمام المهدي
مزيجاً متميزاً من قائد إصلاحي حركي امتلك قدرة نادرة على تحريك الجماهير من خلال
ترجمة المبادئ العقدية والفكر السلفي إلى عمل اجتماعي.
مما يكشف عن نمط قيادة الإمام المهدي
وهو ما يمكن أن يطلق عليه بالقيادة الكاريزمية الإصلاحية الثورية وهي شكل من أشكال
القيادة التحويلية، تظهر بوضوح في أعماله وأقواله خلال مسيرته القيادية. ومن هنا
فإن الورقة تتناول تعريف القيادة، كقيادة تحويلية، وتدرس العوامل التي شكلت قيادة
الإمام المهدي وساعدت على بروز النمط القيادي الكاريزمي. ومن ثم دراسة كاريزما
الإمام المهدي، ودور ذلك النمط في تحرير الخرطوم.
أولا: القيادة التحويلية:
وقد وصف جيمس بيرنز
القيادة بأنها " قيادة تحويلية" تعمل على توجيه القوى والطاقات في اتجاه
تحقيق قيم وغايات المجتمع بما يتطلبه، ذلك من إحداث تغييرات متنوعة في أبنية
المجتمع. فالقائد التحويلي يعمل على قيادة التابعين بساتمالة وجذب الأفكار
المثالية ذلك فإنه يمكن أن يصنع نموذج للقيم
بنفسه ويستخدم وسائل كارزماتية لجذب الأفراد لهذه القيم وبالتالي للقائد ([1]).
والقيادة التحويلية
تحتوي أربعة أنواع من القادة هم المفكرون، الاصلاحيون، الثووريون، العظماء أو
القادة الكاريزميون. فكل نوع من الأنواع الأربعة من القادة يعتمدون رؤية تحويلية
في مجال قيادتهم، بحيث تكون الأمور بعدهم ليست كما كانت قبلهم. كما أن القيادة
التحويلية لا تتعامل مع القادة بمقياس واحد، لأن بعض القادة التحويليين اختزلوا كل
الأنواع القيادية في قيادتهم، فكانوا مفكرين، وثوريين، ومصلحين، وعظماء([2]).
وهذا ما حدث في قيادة الإمام المهدي.
1- القائد المصلح
2- القائد المفكر: وهو
الذي يسعى لنقل الأفكار والمثاليات والقيم إلى أرض الواقع ، وعادة ما يتصف
بالتفاؤل والطغيان بقدرة الجماهير على الحركة الإيجابية متى ما أتيحت لها ظروف
ملائمة.
3- القائد الثوري وهو
في العادة صاحب رسالة، أي مبشر بقيم عليا وبمجتمع جديد، ويتصف بالقدرة والاستعداد
للتضحية في سبيل تحقيق الغايات.
4- القائد البطل:
شرعية هذا القائد مستمدة من إيمان الجماهير به، لما يملكه من شخصية قوية، وخصائص
غير عادية، وقدرة على إدارة الأزمات([3]).
5- القائد الآيدلوجي:
قائد ينطلق من أيدلوجية سياسية تحدد للمجتمع المثالية العليا التي يجب السعي
إليها، ومسالك الاقتراب من تلك المثالية أو الواقعية العليا، وهو يقود تنظيماً أو
حزباً سياسياً يصير أداته الأساسية في تحقيق تلك المثالية ([4]).
والقائد العبقري هو الصانع للأحداث،
افعاله هي نتاج طاقات وملكات وذكاء حاد، وإرادة قوية وشخصية بارزة، أكثر مما هي
نتائج حوادث عارضة ناتجة عن موقعه في السلطة([5]).
للقائد في النمط التحويلي أربعة
مهام رئيسية كالتالي:
1- تحديد الرؤية وصورة المستقبل
وهي الأهم في عناصر القيادة التحويلية وفي التاريخ الإسلامي نجد ذلك واضحاً في
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو دائم التذكير بالأخرة والجنة والتي هي الرؤية
النهائية وعندما كان الهدف الذي يقاتل من أجله الجندي المسلم واضحاً كان ذلك سبباً
قوياً في رفع الروح المعنوية وإقدامه على القتال صابراً محتسباً ([6]).
2- أيصال الرؤية للأتباع: فلا
قيمة للرؤية مهما كانت رائعة وجميلة إذ لم يفهمها الأتباع ويؤمنو بها، والقائد
الفعال هو القادر على إيصال الرؤية للأتباع بطريقة عاطفية، وبصورة واضحة تجعلهم
يرونها كما يرون واقعهم فيتحمسون لها ويتدافعون نحوها ويضحون من أجلها، ونجد
القادة في التاريخ يستعملون التعبيرات اللغوية الرائعة لأجل إيضاح الصورة
المستقبلية والرؤية المنشودة
3- تطبيق الرؤية: فالقائد الفعال
لا يكتفي بشرح الرؤية لأتباعه فقط بل يعيشها ويعيش بينهم ويعلق على كل حادث فيها
من خلال علاقته بالرؤية المنشودة ويتأكد من تطابق هذه الأعمال مع هذه الرؤية
والقيم والمباديء التي تشكلت عليها
4- رفع إلتزام الأتباع تجاه
الرؤية: يعمل القائد على زيادة أتباعه بالرؤية والطريق وذلك من خلال : التشجيع
والتذكير المستمر بأخبار السابقين ومشاركة الأتباع في تشكيل الرؤية واتخاذ القرار
ومنح الصلاحيات الواسعة واستخدام أسلوب القدوة الصالحة الذي هو أقوى نقاط القوة في
الأسلوب([7]).
نرى أن ممارسة القيادة التحويلية هي من
أسس القيادة بالموهبة والتي تتطلب دائماً أن يكون القائد لديه صفات نظرية يستقطب
ويقنع من خلالها الآخرين ويؤثر بهم نحو تحقيق الأهداف ولكن يمكن إذا تم الاعتماد
على ذلك الأسلوب لفترة طويلة دون الاهتمام وتجديد أساليب القيادة التوجيهية أن يفتقد
أن القائد يمارس الشعارات البراقة دوون
إيجاد الحلول التي تتطلب دوماً مهارات عملية القائد
لقد كان للإمام المهدي رؤيا ،
ثورية دينية جعلته متفرداً على معاصريه ، إذ
أن صراعه كان ضد فئات أجنبية مستغلة ( الترك
والإنجليز) وهذا ما جعل رؤياه تأخذ وجهة تحررية وطنية، هذه الرؤيا تمثلت في
فكرة المهدي المنتظر التي تمثل الخروج من واقع الظلم، في إطار من الشمول شكل أساس
جديد ، يتخطى كل الروابط المحدودة، القبلية، الإقليمية، العرقية واللغوية، وكانت
عنصراً موحداً لأشتات القبائل والمجموعات الأخرى ([8]).
وتمثل هذه القدرات الصفات والمواهب
الفردية والخصائص القيادية والجاذبية الشخصية، والتي يصاحبها شعور بأن القائد
الملهم ( الكاريزماتي. وهذا يظهر بوضوح لدى زعماء النهوض الحضاري وأبطال الحروب
وزعماء الإصلاح([9]). ويضيف مونتغري " أن القائد يجب أن يكون ذا
إلهام ويقين باطني، يسمو أحياناً فوق العقل" ([10]).
ثانياً: الجوانب التي شكلت النمط
القيادي للإمام المهدي:
هنالك عدة عوامل شكلت النمط القيادي للإمام المهدي
وهي البيئة التي نشأ فيها ، واليتم، وتنقله في البلاد متعلماً ومعلماً ، كان أو
مصلحاً دينياً.
وذكر دين كيث سايمنتن " أن هناك
مجموعة من العوامل تساعد في فهم القادة والعباقرة مثل ترتيب الميلاد ، والذكاء
والتعليم والعمر وروح العصر والعنف السياسي تعلل ظهورهم واليتم ، والأرث العائلي.
فمعظم الشواهد المجتمعية حتى اليوم تؤيد مزاعم أن اليتم له فضل في نمو العبقرية
والقادة، وهو يتجاوز عامل الصدفة عند العباقرة. إلا أنه لا يمكن اعتباره المبدأ
الرئيسي المساهم في الشهرة. كما تلعب البيئة دوراً أكبر بكثير من الوراثة، فالظروف
البيئية للأسرة، وكذلك المؤثرات مابين الأجيال، من أهم في العوانل في تطور المبدع
أو القائد الممكن ([11]).
وترتبط القدرة العقلية بكمية الإنجاز
والقدرة على التنبوء والتحول السريع من الجمود العقائدي إلى المرونة العملية وفقاً
للظروف، وبالنجاح طويل الأمد عند الثوار، كما أن النزعة الأخلاقية ترتبط بالذكاء
ومهارات القيادة لدى القادة، إلا أن من السهل على القائد أن يحتل موقعاً دائما في
التاريخ سواء كان حيراً أم شر ([12]).
فقد نشأ محمد أحمد يتيماً، توفي والده
وهو في الخامسة من العمر، ثم لحقته أمه
وقد أشار البروفيسور مكي شبيكة إلى أن اليتم قد يكون حافزاً لتكوين الشخصية
المستقلة الخلاقة، وقد يكون مدعاة لتدهور الشخصية لإنعدام العطف، وإنه بالنسب
لمحمد أحمد كانت له نتائج إيجابية. ([13])." ويقول القدال مما لا شك فيه إن مأساة اليتم
أثرت على الصبي بصورة كبيرة فزادت من ميوله للخلوة والصلاة والتأمل. ليتخذ لنفسه
طريقاً طويلا من النمو الروحي وطلب العلم مدعوما من جانب أخوته([14])."
وفي رأي أن اليتم يمثل دافعا قوياً لدى
القادة ، وإلا ماحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من والديه، ليشق طريقاً
وعراً وهو معد لقيادة البشرية، برسالة عالمية خالدة.
أيضاً من الجوانب التي صقلت شخصية محمد
أحمد القيادية، تعلمه صنعة العائلة، وممارسة حرفة صناعة المراكب التي كانت تمتهنها
العائلة، وذكر ونجت " أنه كان يشارك إخوته عملهم في صناعة المراكب([15])."
وكان تعلم حرفة أحد العادات التي درج عليها السلاطين العثمانيين في تأهيل الأمراء
ومن بينهم السلطان سليمان القانوني الذي احترف الصياغة.
كما أن ذكاءه الشخصي وعمل الأسرة الحرفي
المتقدم وظروف المنطقة التي عاش فيها كلها قادته إلى إدراك أهمية التعليم والوعي
به([16])."
وقد أجمع جميع من أرخوا سيرة المهدي على
أنه أمضى أغلب السنوات التي سبقت مجاهرته بدعوته، ومنذ صباه الباكر في المطالعة
والقراءة والتحصيل والتثقيف، لا تقطعها إلا خلوات طويلة يقضيها متأملاً مفكراً،
وتلك الفترة التي أمضاها المهدي قارئاً متأملاً هي التي أسهمت اسهاماً أكبر في
تكوين شخصيته، فقراراته وتخطيطه وحتى خطاباته ذات الأسلوب المترف تكشف عن عقلية
صقلت وتشربت بالمعرفة الغزيرة. وإذا أضفنا إلى ذلك الذكاء الطبيعي الوقاد، برزت
مواصفات تلك العقلية الاستراتيجية الفريدة. وتلك المعرفة([17]).
ويبدو أن محمد أحمد كان تلميذا مثالياً خلال هذه السنوات. يقول اتباعه أنه حفظ
القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره وهذا عمل غير يسير ويتطلب جهداً استثنائياً([18]).
فبرزت جوانب من شخصتية محمد أحمد القوية، في ثلاثة مواقف وهو مابين السابعة
والعاشرة، الأولى كانت حول تحقيق رغبته في العلم، وتمرده على أخوته عندما حاولوا
منعه من الذهاب للخلوة، فأضرب عن الطعام، حتى سمحوا له بالذهاب للخلوة. والثاني
مرة في عندما رفض طعام الخلوة، ويرى القدال أن المغزى الأساسي للحادثين من الرفض
فهو العناد، وهذه المواقف الفردية العنيدة في سلوكه تبين قوة شخصيته وهي إحدى
مقومات الزعامة. وفي قصتة مع المرأة التي ساومته في خشب لتقطير الخمر عندما كان
يبيع الخشب، فأقلع عن بيع الخشب، وهذا الموقف لن يبطل صناعة الخمر، وإنما يكسب سلوكه
تجانساً مع معتقداته، ويزيل التناقضات على المستوى الشخصي. فالمواقف الفردية ضد
الممارسات الشائعة والمتعارفة بين الناس، يتطلب قدراً من الشجاعة والوضوح، ويفرد
صاحبه عن غيره، وكثيراً ما يجلب مضايقات. فقد كانت ظروف العصر هي العنصر الحاسم
الذي حول مواقفه الفردية وديناميكية شخصيته إلى آفاق أخرى من الوعي الاجتماعي وإلى
وعي إجتماعي متكامل، فأخذ الفتى يميل إلى العزلة بشكل ملفت للنظر ([19]).
ولعل ممارسته التاجرة تأتي من باب الاقتادء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
كان محمد أحمد من نوع الرجال الذين يقال
عنهم لا يخشون في الحق لومة لائم. فهو صريح وعنيد عند الموقف الذي يراه صحيحاً
مهما كان مغايراً للموقف العام.
فقد انطلق من معتقداته الدينية وتكوينه
المعرفي لينقل مفاهيمه إلى أرض الواقع منطلقاً من إسلام الفرد ليصل إلى إصلاح المجتمع
فيما بعد إصلاحات أساسية شملت ميادين مختلفة ([20]).
وهكذا وضع محمد أحمد لنفسه أساساً للحياة منذ حداثته، ولم يشأ بأن يحيد عنها حتى
إذا بلغ سن الشباب تاقت نفسه للتصوف([21]).
أيضا ظهرت النمط القيادي للإمام المهدي من خلال سماته الجسدية التي تمتع بها،
وبرغم أن العلم الحديث دحض نظرية السمات القيادية أو على الأقل قلل من شأنها،
والتي تركز على السمات الجسدية للقادة، بما يعني أن القادة يولدون ولا يصنعون
بالتالي ينصب تركيزها على القائد كعنصر فرد ولا تهتم بالأتباع. إلا أنه حديثاً أصبح النظر للقيادة كعلاقة
تفاعل بين القائد والأتباع، فدون الأتباع لن يكن هناك قيادة. إلا أننا نؤمن بأهمية
السمات كجزء من مكونات القيادة، وهي جوانب ذكرت في القرآن الكريم كما جاء في سورة
البقرة في قصة " وزاده بسطة في العلم والجسم" وفي سورة القصص "أن
خير من استأجرت القوي الأمين" أي أن القادة يولدون أولاً بمعنى أنهم يتميزون
بسمات ومواهب فطرية خصهم بها الله تعالى للقيام بمهام غير عادية، إلا أن القائد لن
ينضج عوده إلا بالإعداد واكتساب الخبرات أما من خلال ظروف النشأة غير العادية من
يتم وغيره، وظهر ذلك جلياً في قيادة بعض الأنبياء وأولي العزم من الرسل، فكان
الإعداد إلهي كما حدث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مثل اليتم ومهنة
الرعي التي تهيء للإنسان الخلوة والتأمل بالإضافة للتعود على المسؤولية، بالإضافة
لاكتساب العادات والأخلاق الكريمة ثم انتقل لمهنة التجارة وما بها من أسفار والتي
وصفت في مقولة مأثورة " أن فيه سبع فوائد وما حدث مع نبي الله موسى الذي تربى
في القصر وهيئة له الظروف أن يعيش أجير في أحدى القرى، وما حدث مع سيدنا يوسف من
عبودية ورق وبعد ذلك الملك العظيم. والآن
حديثا أصبحت القيادة مكتسبة من خلال التعلم والتدريب، والمدرسة الإسلامية الأولى
خير من سعى لذلك فقد جاءت معظم آيات القران الكريم توصية ووعظ . من الأوصاف
الجسدية ذكر سلاطين باشا " أنه كان طويل، عريض الأكتاف خفيف السمرة متين
البنية، وكان رأسه كبيراً وعيناه براقتين، وكانت له لحية سوداء، وكانت عادته
الابتسامة على الدوام، وإذا ابتسم بدت أسنانه الناصعة، وكان أفلج بين ثنيتيه فرجة
يتفاءل بها السودانيون ويسمونه " أبو فلجة"([22]).
القيادة
الكارزمية للامام المهدي
وتجلت الكاريزما القيادية للإمام
المهدي، من خلال المواهب الفطرية، والسمات الذاتية، والكاريزما المظهرية، الشخصية
الاجتماعية الشعبية أو الجماهيرية، بالإضافة للشخصية الدينية. القدرة على التأثير
على الأتباع.
وقد كتب في ذلك عصمت زلفو " فقد
أجمع كل من عاصر الإمام المهدي في تلك الأيام أنه كان يتمتع بقدر كبير من
المغناطيسية أو القدرة على التأثير على الجموع ( Charisma)
يعززها قدر كبير جداً من الوسامة الجسدية تحيطه هالة من الجلال والمهابة. وأضاف زلفو
الذي استجوب عدداً من المعمرين الذين شاهدوا المهدي أو تحدثوا إليه. بقوله " لم
تفلح هذه السنين الطوال في مسح الأثر الغريب الذي كانوا يحسون به في وجود المهدي.
والاجابة العامة التي تظفر بها هي اجماعهم
على أنه (ما بتوصف). وأن الفشل هو نصيب كل من يحاول أن يستخلص وصفاً.) "([23])
له صورة جذابة وصفات جسدية متميزة، وهي أشياء لها وزنها في مجتمع تأسره الصفات
الجسدية"([24])
ويتحدث عن مظهره قائلا: " وفيما
عدا نظافة ثيابه وولعه بالعطور، اتسم ملبسه بالبساطة التامة واقتصر على الجبة
المرقعة والسروال والحزام والطاقية المنسوجة من السعف تحيط بها العمامة"[25])
وكان يلبس جبة قصيرة قد أجيد غسلها، وقد
عطرت بالمسك والصندل والورد، واشتهرت عنه هذه الرائحة حتى صارت تسمى " ريحة
المهدي" وكانوا يقولون أنها تماثل رائحة الفردوس إن لم فقها. [26])
وهذا يعد جانب من الكاريزما المظهرية التي يتميز بها كثير من القادة. وتسمى
بالكاريزماتية المظهرية أو المسرحية Theatrcal
Approach"" حيث تتشكل لدى القادة كاريزما مرتبطة
بسلوك معين أو مظهر معين ملازم لشخصيتهم، ( كطريقة الكلام، ونطق الحروف والمشي
حركات كما أن أغلب القادة ذوي الكاريزما يتميزون بطريقة معينة في النظر إلى
محدثهم،) مما يدفع الأتباع والمتأثرين إلى
تقليدهم كنوع من أبداء التعلق بالشخصية، وكثير من قادة كاريزما الصفات تميزوا بكاريزما
المظهر، من أمثلة ذلك قبعة وعصا تشرشل، والشارب الهتلري الشهير، ولباس غاندي الذي
أعلن به تمرده على مصانع النسيج البريطانية، ([27]).
وفي رأي إن اختيار مظهر معين يعد جزء من عملية ترسيخ الانطباع لشخصياتهم.
ويقول منصور خالد لم يكن الإمام المهدي
بالرجل العادي أذ اجتمع فيه العالم والفقيه والمصلح الاجتماعي والصوفي هذه الصفات
في رجل تؤهله بلاء مراء للقيادة" ([28]).
عليه فإن هنالك اجماع
على أن الإمام المهدي كان يمتلك صفات الرجل العظيم صاحب الكاريزما وهو يعتبر رجل
غير عادي يمتلك صفات الذكاء والحركة والقدرة على تنظيم الناس والمعرفة الواسعة
والبيئة بالإضافة ألى أنه متحدثاً وخطيباً ومفكراً . فقد اتصف بالبراعة في
الخطابة، والاستعداد للنضال وإنكار الذات
والتضحية في سبيل ما يؤمن به ويعمل لأجله، وله كارزميته في التفاعل مع جماهير،
فحفزهم على المشاركة السياسية من خلال الجهاد لتحرير البلاد.
عليه
فقد استمد الإمام المهدي كاريزمته مما يتمتع به من صفات صدق وإخلاص وقدرة على
التأثير، وما قدمه من انجازات إصلاحية تفاعلية في الفترة الممتدة من قبل الدعوى
المهدية وخلالها، والتي ينفي خلالها كل شكل من أشكال الفساد. وكان لتفانيه في
العبادة وزهده الظاهر أكبر الأثر في نفوس الذين من حوله، مما أكسبه بعض الأتباع
([29]).
وقد
أظهر محمد أحمد في تلك الفترة إخلاصاً شديداً للدين واشتهر بين أقرانه بالزهد
والتقوى والورع والولاء الخالص للأستاذ، كما أظهر تبرماً مبكراً من علاقة رجال
الدين بالحكومة وقبولهم الجرايات التي تنفقها عليهم. 28 ويبدوأن تصرفات محمد احمد
هذه قد خلقت له نوعاً من التقوقير واللمعان. مما يدل على ذلك أن بعض أقرانه في
خلوة الغبش قد إانضموا إلى حركته فيما بعد وأعطوه ولاءهم الكامل. [30]).
الملامح القيادية للإمام المهدي في حصار
الخرطوم
برز النمط القيادي للإمام المهدي بجلاء،
ووضوح، في حصار الخرطوم والذي لا نتناوله هنا من الناحية العسكرية ولكن نتلمس
المواقف التي تدلنا على نمط قيادته. في تلك المعركة الحاسمة. وقد ذكر زلفو"
لقد برزت عبقرية الإمام المهدي القيادية في إدارته لأعظم معاركه على الإطلاق حصار
الخرطوم. إذ كاد أن يصل لدرجة الكمال استراتيجياً وتكتيكياً([31]).
ونلاحظ أنه كمن عبقرية أي قيادة تاريخية في اكتشافها لخصائص الشعب والمكان،
وتعاملها إيجابياً مع هذه الخصائص، كان الإمام المهدي مستجيباً لخصائص شعبه
ولخصائص المكان كان فعلاً ( إماماً) (قائداً )
وفي كل معارك المهدي وحتى حصار الخرطوم
كان التخطيط والتنفيذ لاختيار الأرض والزمن المناسب لتوجيه الضربات واعداد الكمائن ممتازاً وناجحاً
للحد الذي غفر بدائية التسليح وسؤ التنظيم، منبئاً عن استراتيجية أصيلة ذكية
يقابلها قصور وضعف تكتيكي شنيع. ([32]).
ولقد ذكر هولت "لقد كان المهدي عن طريق الحفاظ على عزلة الخرطوم وتوالي
هجماته على المدافعين يعد العدة بفعالية للصراع النهائي([33]).
ولا بد أن نعجب بحيوية المهدي ونشاطه المتدفق بين واجباته المختلفة المتعددة، ومن
أين توفر كل ذلك الزمن لتحرير المنشورات وممارسة واجباته الدينية من وعظ وارشاد،
ومن مجالس حرب متعاقبة ثم التخطيط للعمليات المتصلة وما يسبقها من تدريب ثم
الاهتمام بالواجبات التشريعية والإدارية لوضع أسس الدولة الإسلامية ([34]).
ونستطيع أن نستدل على القدرات القيادية للإمام
المهدي من خلال المسيرة الشعبية الهائلة التي دامت عدة شهور من الأبيض إلى
الخرطوم، فبرزت العقلية التنظيمية للإمام المهدي ومقدرته الفذة في التعبئة
المعنوية والروحية وكفاءته كعقلية استراتيجية كما ابرزت الروح الجديد التي غمرت
الألوف ([35]).
يتضح كل ذلك بجلاء من خلال إدارته، لمسرح عمليات ضخم مساحته مئات الألوف من
الأميال المربعة، من أقاصي كردفان، وهو يضيق دائرة الحصار يوماً بعد يوم حول
الخرطوم بضرباته الاستراتيجية وتوقيعاته الموزونة. بالإضافة إلى هندسة وميكانيكية عملية التقدم
نفسها ([36]).
مما مكنه من عزل الخرطوم عن العالم الخارجي، بنجاح باهراً فقد شهد عام 1884م عزل
الخرطوم عن العالم الخارجي. ([37]).
كما برزت كاريزما الإمام المهدي وشخصيته
الملهمة في دفع الحماس ورفع الروح المعنوية للجماهير الثائرة في طول البلاد
وعرضها، ويقول أبو شامة أن الإمام المهدي عبر النيل قبل يوم الهجوم ليعظ الناس في
أمر اقتحام الخرطوم وتحريرها، فكان الجميع يبكون وهم يسمعون الخطبة([38]). وقد ذكر سلاطين أثناء تقدمهم نحو الخرطوم
" إن الناس لم يكن لحماستهم حد لم يكونوا في حاجة إلى التحذير من التخلف،
فإنهم كانوا يهرعون إلى القتال. وكل منهم طامع في الغنيمة التي تنتظر انتصار
المؤمنين، وكانت نتيجة إعلان المهدي الجهاد أن هاجر الناس جملة. وكانت هجرتهم لا
مثيل لها في تاريخ السودان ([39]).
أما أسلوب المهدي في معاملة أعوانه فقد
ساعد إلى حد كبير في تماسك فريقه طوال الحصار، ولم تتزعزع ثقتهم به وإيمانهم به
كرجل الدين الذي ينظر إليهم جميعاً كأنداد ([40]).
وكان الإمام المهدي يتعامل مع ثواره وأمرائه كالجياد العربية عليه أن يمسك بأعنتها
على الدوام ([41]). وهو نفسه من قال:" أحبابي انكم صرتم من
أنصار الدين وصرنا لسنا أولى به
منكم"([42]).
الخاتمة
من أهم النتائج التي خلصت بها هذه
الورقة يتضح مما سبق أن النمط القيادي
للإمام المهدي لعب دوراً كبيراً في مجريات الأحداث في سودان القرن التاسع عشر،
والذي استطاع من خلاله ليس مسايرة الأحداث بل صناعتها، فألهب ثورة وطنية قومية
داخل القطر من مقدرات قيادية نادرة الحدوث، وكل ذلك ينبع من القوة الكارزمية التي
يتمتع بها الإمام المهدي والصفات والمواهب الطبيعية بالإضافة لعوامل النشأة
والتكوين التي صقلته ومثلت عامل حاسم في تشكيل النمط القيادي للإمام المهدي، الذي
نستطيع أن نلحظه من خلال حرب التحرير الكبرى، وما فيها من تحديات أظهرت ذلك النمط
بجلاء.
التوصيات:
المزيد
من الدراسات والبحوث في تاريخ الدعوة المهدية.
اقامة
ورش ومنتديات دورية في موضوع المهدية من خلال مركز الإمام المهدي للدراسات
المهدوية.
الاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي في
خلق شبكة من المختصين والباحثين في مجال الدراسات المهدوية في نقل المعلومات
وتداولها للإسهام في تصحيح ما علق من تشوهات وتزييف للحقائق في تاريخ السودان.
المصادر
والمراجع:
1- إبراهيم فوزي، السودان بين يدي
غردون وكتشنر، القاهرة، 1319ه.
2- ب. م هولت، المهدية
في السودان: ترجمة: جميل عبيد، دار الفكر العربي، القاهرة1987م.
3-
جلال عبد الله معوض، علاقة القيادة بالظاهرة الإنمائية، رسالة دكتوراة
جامعة القاهر، 1985م.
4- دين كيث سايمنتن، العبقرية
والإبداع والقيادة، ترجمة شاكر عبد الحميد، المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، الكويت، 1993م.
5-
سدني هوك، البطل في التاريخ، ترجمة مروان الجابري، المؤسسة الأهلية للطباعة
والنشر، بيروت، القاهرة، 1959م.
سلاطين باشا، السيف والنار في
السودان، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
6-
السيد عليوة وأخرون، اتجاهات حديثة في علم السياسة، منهج صنع القرار في النظم
السياسية، مكتبة النهضة المصرية، 1987م.
7- ضرار صالح ضرار تاريخ السودان
الحديث، ط4، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1968م.
8-
عبد العزيز حسين الصاوي، محمد علي جادين، الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة،( دار
القومية للثقافة والنشر: القاهرة) (ب، ت) .
9- عبد المحمود
أبو شامة، من أبا إلى ىتسلهاي حروب حياة الإمام المهدي،( ب- ن) (ب-ت).
10- عصمت حسن زلفو، كرري تحليل عسكري
لمعركة أم درمان، دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطو، 1987م.
11- فيرغس نيكول، سيف النبي مهدي
السودان، ترجمة عبد الواحد عبد الله، ط1، مركز عبد الكريم ميرغني، أم درمام،
2009م.
12-
قصي محبوبة، القائد بين السياسة والسلطة والنفوذ، صراع المفاهيم والشخصيات في
الأمم والدول و المؤسسات، ط1، الأهلية للنشر والتوزيغ، عمان، 2010.
13-
محمد إبراهيم أبو سليم، الحركة الفكرية في السودان، ط3، دار جامعة الخرطوم
للنشر، الخرطوم، القاهرة، 1989م.
14- محمد أحمد درويش، نظريات
واستراتيجيات الاستحواذ على القوة، القاهرة، عالم الكتب، 2009.
15-
محمد سعيد القدال، الإمام المهدي محمد أحمد،1844-1885م، لوحة لثائر سوداني،
مركز عبد الكريم ميرغني، الخرطوم،200.
16-
محمود شيث خطاب، بين العقيدة والقيادة، دار الفكر، بيروت، 1983م.
17- مكي شبيكة، السودان والثورة
المهدية، ج1، م، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1978م.
18- المهدي إلى عمر الياس ومحمد بن
العريق ومن معهما من الأنصار13، جمادي أخر1300ه.
ميمونة ميرغني حمزة، الصراع حول
الخرطوم، شركة دار البلد، الخرطوم، 2001م.
وينستون
تشرشل، تاريخ الثورة المهدي والاحتلال البريطاني للسودان، ترجمة عز الدين محمود،
دار الشروق، القاهرة، 2006م.
[2])) قصي محبوبة، القائد بين السياسة والسلطة والنفوذ، صراع المفاهيم
والشخصيات في الأمم والدول و المؤسسات ، ط1، الأهلية للنشر والتوزيغ، عمان، 2010،
ص79.
[5])) سدني هوك، البطل في التاريخ، ترجمة مروان الجابري، المؤسسة
الأهلية للطباعة والنشر، بيروت، القاهرة، 1959م، ص153.
[7])) عبد العزيز حسين الصاوي، محمد علي جادين، الثورة
المهدية مشروع رؤية جديدة،( دار القومية للثقافة والنشر: القاهرة) (ب، ت) .، ص48
[9])) السيد عليوة وأخرون، اتجاهات حديثة في علم السياسة، منهج صنع
القرار في النظم السياسية، مكتبة النهضة المصرية، 1987م، ص158.
[11])) دين كيث سايمنتن، العبقرية والإبداع والقيادة، ترجمة شاكر عبد
الحميد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1993م. ص69
[14])) فيرغس نيكول، سيف النبي مهدي السودان، ترجمة عبد الواحد عبد
الله، ط1، مركز عبد الكريم ميرغني، أم درمام، 2009م، ص69.
[17])) عصمت حسن زلفو، كرري تحليل عسكري لمعركة أم درمان، دار التأليف
والترجمة والنشر، جامعة الخرطو، 1973م، ص45.
[19])) عصمت حسن زلفو، كرري تحليل عسكري لمعركة أم درمان، دار التأليف
والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم، 1973م، ص45.
[27])) قصي محبوبة، القائد بين السياسة والسلطة والنفوذ، صراع المفاهيم
والشخصيات في الأمم والدول و المؤسسات ، ط1، الأهلية للنشر والتوزيغ، عمان، 2010،
ص ص79-80
[29])) محمد إبراهيم أبو سليم، الحركة الفكرية في السودان ط3، دار جامعة
الخرطوم للنشر، الخرطوم، القاهرة، 1989م، ص28.
[30])) وينستون تشرشل، تاريخ الثورة المهدي والاحتلال البريطاني
للسودان، ترجمة عز الدين محمود، دار الشروق، القاهرة، 2006م، ص38
تعليقات
إرسال تعليق